الحمل

كيف تجعل من طفلك شخصاً لا تهزمه الصعوبات


نعتقد كثيراً أن عالم الأطفال بسيط، برئ، ومن السهل تطويعه أو خداعه ببعض الحنكة والقليل من الصبر، لكن الحقيقة أن هذا العالم معقد ومتشابك وحساس ومتقلب، أكثر بكثير مما نظن، فنعتقد أن قلة فهمهم وضحالة تفكيرهم وعدم انصياعهم للنصائح والإرشادات هو سبب الفجوة بيننا وبينهم، والحقيقة أن قلة فهمنا نحن لهذا العالم المعقد الجميل هو سببها الفعلي! في رحلة التربية سوف نجد فضاءً ساحراً، يكاد يكون مدرستنا الأهم، يعطينا العبر والدروس قبل أن نسردها عليهم، ويمنحنا القوة والثقة بمجرد أن نراقب تصرفهم مع ظروفهم.

قبل أيام أصيبت طفلتي -ذات الأشهر العشرة- بالتهابات جلدية حادة في مقعدتها بسبب الإسهال المتكرر، فكانت تعاني ألماً جعلها تقرر عدم الجلوس! استثنت الجلوس من كل حركاتها، واستعاضت عنه بالوقوف والانتقال بين الأجسام المرتفعة، والمحاولة الجادة للوقوف وحدها، والتمكن من التحرك خطوة أو خطوتين في الفراغ، انتهت تجربتها بإتقانها المشي مبكراً، وبإدراكي درساً عجيباً أن هؤلاء الصغار أكثر قدرة منا على تطويع آلامهم وتحويلها إلى محفز يضمن لهم التميز عن الأوضاع الطبيعية والتفوق على خط السير الشائع.

 كيف ينظر الطفل إلى الصعوبات؟


يتمتع الإنسان عموماً بقدرته الفائقة على التكيف، ونجاحه في التماهي مع بيئته وتطويع الظروف المحيطة به، والطفل بشكل خاص تكون هذه القدرة لديه طازجة، حيوية، وبكامل فاعليتها، بل إن الصعوبات في المراحل الأولى من حياته تمثل جزءاً من تفاصيل أفعاله، جزءاً لا ينظر إليه على أنه صعوبة أصلاً، بل يراه محركاً لمحاولات جديدة لطرق مختلفة، وهذا ينطبق على مختلف الأمور التي تواجهه من أشدها بساطة كعدم قدرته على تركيب قطعتي ألعاب ببعضهما، إلى أكثرها تعقيداً كالاندماج مع مجتمع مختلف، أو التصالح مع إعاقة ما.

وهو أمر على ضرورته الملحة، يفشل في تحقيقه الكثير من الكبار، والحق أن البالغين كلما نضجوا أكثر وتشعبوا في طرق الحياة ومعاني الممكن والمستحيل، ازدادت هذه القدرة لديهم – والتي كانت نابضة في الطفولة- تقلصاً وجفافاً، وازدادت قدرتهم على مواجهة صعوباتهم استحالة وتعقيداً.

ويعود ذلك للإصرار المتأصل في صفات الطفولة المبكرة خاصة، والقدرة على تكرار المحاولة والخطأ لفترات طويلة ودون كلل أو يأس، كما تؤثر فيه كذلك المساحات الواسعة الخالية من الأفكار المعقدة والخطط المتشعبة والمفاهيم العميقة والمسئوليات الثقيلة.

والأشخاص البالغون الذين يتميزون بالقدرة على تمضية حياتهم بنظرة الطفولة إلى صعوبات حياتهم، هم في الحقيقة أشخاص استطاعوا الحفاظ على مكتسباتهم اللبنية الأولى من ذلك العمر الفريد، وبدلاً من السماح لها بالتقلص والانكماش، استطاعوا -بذكائهم أو طبيعتهم النفسية المختلفة- تنميتها معهم وتطويرها وتغذيتها بكل ما تحتاج إليه لتستمر وتُثمر وتحقق لصاحبها التميز.

ميزة إضافية لقدرة الطفل على هزيمة الصعوبات
طفل يتسلق جدار خشبي يتأمل مجموعة أبقار
طفلك لا تهزمه الصعوبات


ليست القدرة على هزيمة الصعوبات أو التكيف معها ميزة وحيدة يختص بها الأطفال في عمرهم المبكر، بل تزيد عليها رؤيتهم لكل ما يواجههم من تحديات على قدم واحدة من المساواة، فعجز الطفل عن تركيب قطعتي "بازل" في لعبة ما قد يثير غضبه وحفيظته بنفس الدرجة التي تثيرها سخرية صديق الدراسة من شكله أو فشله في حل مسألة ما! وهذه ميزة تجعل ردات فعلهم بالنسبة للأمور البسيطة الثانوية كاللعب مبالغاً فيها وأكبر من حجمها، لكنها في ذات الوقت تجعل ردات الفعل على الأمور المعقدة والكبيرة -والتي تستلزم في كثير من الأحيان علاجاً نفسياً- أخف وطأة وأقل تداعيات، وبالتالي يمكننا التعامل معها بسلاسة أكبر، والتحكم فيها بفاعلية أكثر، والتقليل من نتائجها السلبية على الطفل ومن حوله.

 في فلم درامي شهير يُدعى "وُندر" يكون الصبي أوغي محط سخرية زملائه لإصابته بمرض يجعل شكل وجهه مشوهاً، معضلة اندماجه مع الأطفال وتجاوز سخريتهم منه وتنمرهم عليه، هي أكبر من أن يستوعبها الوالدان، وتكاد تهدد استقرارهما، لكن طبيعة الصبي المتأثرة بإصرار الطفولة وتحدي العقبات وتكرار المحاولة، مكنته من تجاوز الحوادث التي كانت من الممكن أن تعصب بنفسيته وروحه إلى الأبد! بقليل من الفهم لدى أبويه وبعض الدعم لصفاته العبقرية في الاستمرار، تمكن من تحويل محنته لمنحة، وتكوين أصدقاء وإثبات نفسه كشخص طبيعي بل متميز.

الاستغلال الأمثل لقدرة الأطفال على هزيمة الصعوبات


نأتي إلى النقطة الأهم، وهي كيف نستطيع كمربين أن نستغل هذه الميزات في أطفالنا لدفعهم لتجاوز أي شيء يواجهونه، وكيف يمكننا تعزيزها لتنمو وتتطور معهم ونحافظ عليها من أن تُفقَد.

إجابة السؤال الأول تكمن في أن نعزز أولاً هذه الميزات لديهم منذ الصغر، فنشجعهم على تكرار المحاولة والخطأ وعدم الملل أو اليأس، وندعمهم ليصروا على تحقيق ما يريدون، ويتجاوزوا ما يُتعبهم، بالدعم المعنوي والحديث أحياناً، وبالمشاركة معهم فعلياً أحياناً أخرى.

أما كيف نعززها ونحميها من أن تُفقد، بأن نكرر في حواراتنا معهم أن كل ما يواجهونه في الحياة هو أشياء تشبه قطعة اللعبة التي أعيتنا في تركيبها عندما كنا أطفالاً، وما دمنا تغلبنا عليها في ذلك الوقت، فإنه لا يعجزنا شيء بعدها، وتكرارا هذه العبارات والمفاهيم للطفل في كل مرحلة من مراحل حياته، مع تغيير الخطاب وفقاً لمرحلته، تجعله شخصاً متيقناً أنه لا يهزمه شيء، وأنه قادر على تجاوز كل العقبات، وبالتالي شخصاً سوياً نفسياً، وناجحاً شخصياً، وملهماً مجتمعياً.

تبقى النقطة الأهم، وهي مكان هتين الخصلتين (التجاوز والإصرار) من أنفسنا نحن كمربين، فشكلنا أمام الأطفال، وتفاعلاتنا مع أحداث الحياة، ومكاننا فيها، وطبيعة واقعنا الذي نعيش وفكرنا تجاهه، كلها محط نظر وتمحيص وقدوة لدى الطفل، وطالما وجد فينا نموذجاً حياً من الأمور التي نطلب منه أن يكونها، كان من الأسهل والأكثر إقناعاً عليه أن يستجيب، وإلا فهو سوف يظن أن توجيهاتنا تلك للتحكم به والحد من حريته، أو لتعويض نقصنا وعجزنا بنجاحه! خاصة إذا كان في سن الطفولة المتأخرة والمراهقة.

صحيح أن الحياة مسرح لحروب طاحنة نفسياً وفكرياً قبل أن تكون كذلك بالمعنى الحرفي للحروب! لكن نجاحنا في السيطرة على انفعالاتنا وردات فعلنا فيها، هو السبيل الأنجع لإنشاء جيل سليم قادر على مواجهة كل ما يعترضه من مصاعب، في ظل عالم مجهول المصير، يسير نحو الهاوية بانتظام!

ولعل ميزة إضافية يمنحنا إياها الأطفال نحن هذه المرة، هي أن نتعلّم منهم هذه الميزات ثم نحاول أن ندعمهم بواسطتها.

عالم الطفولة عالم مكتنز، وثري، وبذكاء يمكننا أن نرى علاج مشكلاته من داخله نفسه.    

     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قالب تدوينة تصميم بلوجرام © 2014