الحمل

آخر قصة قبل النوم

سطرٌ قبيل النوم مصطفٌ من الأطفالِ
ينتظر افتتاحاً من فم الجدة..
وتقول "كان"، كأنه تواً يكون، وسوف يبقى كائناً
كنبوءة صلدة..
في آخر القصص الرتيبة لم تكن
عينا العجوز كما عهدنا ثابتة..
روت الحكاية باضطراب الخائن المفضوح
وانجلت الحروف بليغة كالسيف
لكن.. باهتة..
في آخر القصص استهلّت _بعد (صلوا ع النبي) _:
"يحكى بأن جميلة في القدس
قد عشقت عراقياً يبيع بسوق خان الزيت
تمر البصرة..
وأحبها حباً تمكن من حشاه
تمكن جذر نخلته على شط الفرات..
أهدى لها يوماً سوار الياسمين
معتقاً تنساب داخل عطره انسام بابل
آشورية الحمرة..
متوسلاً طلب الزواج،
ويومها كانت على الكتفين تُسدل شالها
خلعته والتطريز في أطرافه حيّ
وقالت: لُفّ قلبك،
إنه درع متين، واحمهِ
فعليه (دمّي) قطرة من (غزّة الإبرة)..
ومضى يحصّل مهرها:
كحل كثيف سال من عين المها،
وضفيرة من سور حمص،
ومكتبة،
ورذاذ تسبيح الفرات"..
_هل عاد گ(الشاطر حسن) ياجدتي؟
كالأبله اللاهي سألت..
لا، لم يعد
سرقته شمس الصيف،
نالت شاله،
صار الشفق..
وتضج حمرة لونه بدماء دجلة،
تنزف الشهباء
والبيت العتيق
والشمس استطالت، واللهيب يموج
والقمر اتسق"..
_وعروسه بالقدس؟
_"لِسّا تنتظر"
_ومتى يعود؟
_" سيعود - إن نمتم- صباحاً"
واستدارات، ترقب (الشباك) تحتضن (المخدة)..
" سيعود - إن نمتم- صباحاً" تمتمت
لا
لم ننم
قد ماتت الجدة!

أليس لم تعد في بلاد العجائب

تفتح المدينة عينيها المتعبتين صباحاً، بعد ليل مسهد، تكسر سكينته أصوات الانفجارات، وتغير لونه أضواؤها، ليل كأنه قطعة هاربة من سيرة حرب، ولكنها بعد هدأة جنونه تخرج منه إذ تفتح عينيها إلى صباح من عالم آخر، كأنها استيقظت من حلم، فتنفض صوت القصف من أذنها، وتخلع ثوب الرعب، وتبتلع خوف الصغار حين تصحو على صوت العصافير، ويتبخر لهب الصواريخ مع أشعة الشمس. 
تسير "أليس" -خلال زيارتها لغزة- في شوارعها التي كانت الليلة الفائتة مدينة الأشباح، فترى في صباحها حياةً تُبهِج القلب، صباحاً تمتلئ شوارعه بأطفال يحملون المستقبل في حقيبة على ظهورهم، يُرافِقون عمّالاً يضعون في الكيس مع فطورهم البسيط قلقهم ألا يجدوا قوتهم ذلك اليوم، يقَبّل الأطفال يد جَدّهم العائد من صلاة الفجر، ويتراكضون فرحاً ودهشة إذا صادفوا مُقاوماً أبطأَتْ بهِ الدّرب عائداً من رِباطه على الثغور، تصادِف أشخاصاً كلُهم كانوا مثلَها يوماً، حملُوا على ظُهورِهم حقيبة، ثم صاروا يحملون المدينة: دفئَها، نهضَتها، أَمْنَها...وأملَها، فترى أنه لا يشبه عبور ليل هذه المدينة إلى نهارها، سوى عبور الحدّ الفاصل بين بلاد الرعب وأرض الأحلام!
في هذه المدينة، لا يظهر ذاك الحد الفاصل بين الليل والنهار فقط، بل يتعداهما ليشكل سمة الناس والحياة، ليقسمها جميعاً إلى شقين متضادين تضاد الأبيض والأسود، متمازجين في ذات الوقت تمازج ذينك اللونين على لوحة الشطرنج، فيجعل أهلها في مواجهة لا تنتهي مع الضدين؛ 


في غزة، يعمل موظفون لا يتقاضون رواتبهم حراساً للبنوك التي يتقاضى منها موظفون آخرون رواتب دون عمل! وبعد حين، يأمرهم قائدهم ذاته الذي أمرهم بترك أعمالهم مع ضمان الراتب، أن يعودوا للعمل مقابل راتب أقل من ذلك الذي منحهم إياه طوال أحد عشر عاماً وهم في بيوتهم!
 تحت سماء هذه المدينة، يعيش تجار يمتلكون آلاف الدولارات على شكل بضائع قابعين في السجن، لأنهم لا يستطيعون سداد استحقاقاتهم بعد أن تكدست بضائعهم وسط مجتمع يستدين لقمته ودواءه! وتحت ذات السماء، يستورد بعضهم ملابسه ومركباته واحتياجاته المترفة من أوروبا إذ لم تعد تليق بهم تلك التي داخل المدينة!    
ترى "أليس" في بقعة تتجاوز مساحتها نصف مساحة القاهرة وحدها بقليل، سيارات تستخدم غاز الطهي والزيت النباتي وقوداً لها، ومباني تستخدم الطاقة الشمسية بدلاً من التيار الكهربائي، ومستشفيات تجري عمليات غسيل الكلي يدوياً، وجنوداً محاصرين ملاحقين يصنعون صواريخ وطائرات دون طيار محلياً، ومدينة تجثم فوق شبكة من الأنفاق، أوسع وأعقد وأنظم من شبكات البنى التحتية، ويقضي نصف سكانها داخلها نصف أوقاتهم!
هنا، تدفع الأمهات الموظفات لحضانات أطفالهن أكثر من الراتب الذي يتقاضينه، ويبتعن ملابسهن من محلات البضاعة المستعملة! هنا، كلما ازداد الفقر انتشاراً وتمدداً، ازدادت المظاهر الباذخة تغلغلاً، وكلما تعسر الزواج، ارتفعت تكاليفه! وهنا يقارب عددُ الجياع عددَ المطاعم، ويفوق عدد المركبات عدد السكان!
يتجه سكان هذه المدينة نحو التطرف في كل شيء، ينزعون إلى أحد النقيضين، ويبدأ الوسط في التلاشي، ييأسون من الحياة بقدر ما يعاندون الموت، يتراجعون للوراء بقدر ما يواكبون التطور، يتعطشون للوحدة بقدر ما يعززون التشرذم، يصدرون العباقرة بقدر ما يحتفون بالحمقى، يرفضون الذل بقدر ما يمارسون النفاق، يعيشون الجزع بقدر ما يعلمون الصبر، وينتظرون الموت بقدر ما يمارسون الحياة!
رأت "أليس" عدد السكان الذين يسكنون خياماً على أنقاض بيوتهم المدمرة، يوازي عدد الدولارات التي سجلت ثمناً لشقة فاخرة واحدة معروضة للبيع بنصف مليون، وعدد الطلاب المطرودين من قاعات الامتحان في الجامعات لعدم تسديد باقي الرسوم، يساوي عدد الباعة الذين أطلقوا "حملة سامح تؤجر" لإسقاط ديونهم عن المواطنين!
رأت مدينةً معبر البضائع بينها وبين الاحتلال مفتوح، ومعبر السفر بينها وبين جارتها العربية مغلق، ومرضى لا يجدون علاجهم فيها فيسافرون للعلاج وتمنعهم جارتهم، وأمهاتٍ تودّع أطفالها المرضى على فراش العلاج مسافرين وحدهم، في وحشة الإسعاف، ليس معهم سوى الطبيب، لأنهن ممنوعات من السفر "أمنياً"!
رأت حكومةً مدينة لموظفيها، ورئيساً يعاقب أتباعه ومواليه، نكاية في خصومه السياسيين ومنافسيه! ولا يطل بخطاباته إلا ليسجل مهزلة تصريحية جديدة افتتاحاً بـ" أُلْتِلُّو وأَلِّي وآلُولْنا وأُلْنَالْهُم" مروراً بـ "فاتن حمامة" وانتهاءً بـ "الكنادر والصرامي"، ثم يطلب من أتباعه -المعاقبين- تفويضه لفرض عقوبات جديدة عليهم، ثم يخطف السرطان فنانة ثائرة شابة جميلة، ويترك ذلك الرئيس يحتفل بعيد ميلاده الثالث والثمانين!
عاشت في الواقع مغامرات أكثر تعقيداً وغرابة من الخيال، لم تعد "أليس" بحاجة أن تزور بلاد العجائب ذات الأرنب الضخم، وصانع القبعات المجنون، فقد رأت في غزة ما هو أعجب، وهي في ضيافة مدينة تبكي كل عاصمة عربية خذلها بنوها ومعادوها، رغم أنهم هم أول من خذلوها، ويعيد أبناء الجيل الثالث لخيام التهجير والتشريد والعذاب، نصب خيامهم من جديد على حدود بلادهم المسروقة والمكوث فيها، بمحض إرادتهم، ليبرهنوا للعالم أن أجدادهم لم يموتوا، وأنهم لن ينسوا، وأنهم سيعرضون الوقائع بطريقة عكسية، ستنتقل هذه المرة من الخيام إلى العودة.   

زجاجة العطر


-         زجاجة العطر..فقدت بعدك عبيرها، هاهي تتنصب وحيدة كأبي الهول بين وحشة الأهرامات، وإن كان هناك بعض الأشياء تشاركه حوله الوقوف الذاهل..إلا أنه مثلها يتيم..
زجاجة العطر التي لم تكد تعرفك مثلي، لقصر عهدها بك..أصبحت يوم الفاجعة ثكلى، لاتجيد مواساة أرملة فقدتك وفقدت معك شذاها حين تلامس جلدك..
يا زجاجة العطر..لم فقدت ذاك العبير؟ كنت ستصنعين معروفا بإبقاء رائحته حية بيننا لعلنا لا ننجر مع صخب الحياة..
ستبقين مثلي نزيف ذكرى لاتموت ولا تحيا..
لا تفقدي عبيرك، لتبقى حواسنا على مقربة من ذكراه،

"لغة الوداع فصيحة لكنما، لهو الحياة يغلق الآذانا"،  لهو الحياة قد يغلق الأعين والأنوف أيضا!

قصة قصيرة/ استنساخ

كانت السيارة تسير بِتَخَبُط عندما أفقت من ذهولي هاويةً إلى ذهول آخر، إنها ذات الطريق من البيت إلى المشفى، لم تتغير معالمها، أجلس في نفس المكان بجوار النافذة، دموعي تنحدر على خدي وقلبي تعتصره قبضة من حديد، إنه نفس الإحساس، لكنه قبل عام كان مختلطاً بأمل، وبعض من رجاء وفرح، أما اليوم فيشوبه شيء آخر، شيء جديد أحس به للمرة الأولى، كثقب هائل في جانب صدري الأيسر، تجلس أمي بجواري تمسك كفي بيدها، وتحتضنني بالأخرى، كأنه المشهد ذاته، لم تتغير ملابسها، ترتدي أمي في هذا اليوم من أيار من كل عام ثوبها المطرز ذاته، لكن الذي تغير وجهها، في المرة الأولى كان باسماً متهللاً رغم الدموع التي تغطيه، والآن أراه اكتسى يأساً وألماً، وأنا أنظر من النافذة، كان سمعي ثقيلاً ورأسي مشوّش والرؤية ضبابية وصدري ضائق، كأنني كنت أجلس تحت الماء! تعيد عليّ أمي عبارات التصبر وبعض الأدعية، وتُتبعها بمقاطع أخرى غريبة التقطت منها "ويحميلك عبود".. انتفضتُ! عبود؟ لم أدرِ ساعتها أَلْتَقَطْتُ الكلمة بأذني أم بقلبي، آه عبود.. إنه نفس اليوم الذي كنت فيه في طريقي لولادته، مولودي الأول بعد عشرة أعوام من الانتظار..

وقد كان عبود، 
وُلد في الرابع عشر من أيار، كان مقرراً إجراء الجراحة في الخامس عشر "يوم النكبة"، لكن والده لم يشأ أن يرتبط ميلاده بذكرى مؤلمة، اعتَقَدَ أن ذلك شؤم عليه..

 يا إلهي! لقد أصبح يوم ميلاده أكثر شؤماً! مات والدك اليوم يا عبود!!

لقد اشترى لك هدية يوم ميلادك.. لقد اشترى الكعكة.. وعلق الزينة.. استيقظتُ اليوم باكراً وقمتُ بتنظيف البيت وتحضير ما يلزم.. خرج من البيت أثناء قيامي بالتنظيف وقال إنه يوم جميل، ومضى مستعجلاً بعد أن شدّدت عليه ألا يتأخر عن الحفل.. خرج ولم يعد! مات والدك يوم ميلادك الأول يا عبود!

لكن هل حقاً ما يقولون، ربما أنا في كابوس، التفَتُّ إلى أمي: عنجد مات أبو عبد الله؟ أجابتني بنوبة بكاء وتمتمات وأدعية لم أفهمها وضَغْطة أقوى بيدها على كتفي..

لم يزل الطريق مألوفاً، جو مغبرّ بارد مائل إلى الصفرة، يجلس أبي بنفس الترتيب إلى جوار السائق، لكن أبو عبد الله ليس معنا كالمرة الأولى.. إنه في انتظارنا مسجّىً في ثلاجة الموتى لنتعرف إلى جثته! مضى الوقت كأنه دهر، كان الهواء يلسع وجهي ببرودته رغم إحساسي بحرارة شديدة، لطالما تساءلتُ حينما كان يصحبني في نزهة إلى الشاطئ كيف ينقلب الجو فجأة من دفء لطيف إلى لسعة برد؟ أو ينقلب فجأة من نسيم بارد إلى حرارة مُرهِقة؟ كان يضحك معقّبا: كما سأنقلب فجأة إلى أب مسئول عن قطعة من كبده تمشي أمامه، بعد عشرة أعوام من الحرية!.

عشرة أعوام.. قضاها معي وحدي دون أطفال، ودون تذمّر أيضاً، دون يأس، ودون أية مشاكل.. لقد كان المثال الحيّ للإنسان الكامل! الآن فقط فهمت لماذا، إنه لم يُكتب من أهل هذه الأرض، كان ملاكاً من الشهداء الذين يُعرفون بسيماهم حتى وهم أحياء.. ألهذا حُرِمتُ من الإنجاب حتى قبل عامٍ واحدٍ من موتك؟ لآخذ حقي معك قبل أن يأتي يومك المحتوم؟ لكنني لم أكتفِ، أريدك دهراً لنشيخ معاً، ونزوّج ابننا الوحيد.. ابننا الذي اخترتَ أن ترحل في أول حفلة عيد ميلادٍ له! ألم تجد على الأقل يوماً آخر؟!

فُتِح الباب الذي أحدّق في نافذته فجأة، لم أنتبه حتى لتوقّف السيارة، يد أخي ممدودة في وجهي، ويد أمي ترتخي عن كتفي.. وضعت قدمي على الأرض، إنها قدمي ذاتها التي كانت ترتدي الحذاء الأميري وفستان سندريلا الأبيض، قبل عشرة أعوام، كان أخي الذي يمدّ لي يده الآن طفلاً، بدا فاتناً في البدلة الرسمية، مدّ يده نحوي تماماً كما اليوم، لكنه مدّها ليتحسس الفستان الأبيض الذي يحسبه أغلب الصغار في سنّه هالةً من نور أو قطعةً من غيم.. لقد غدا اليوم رجلاً، يُخفي وجهه من مواجهة عيني أخته الكبرى التي أصبح يحمل الآن عبء جُرحها كما حملته طفلاً مرات ومرات..

أذكر تماماً كيف وقف عريسي يساعدني على النزول، كان وجهه أجمل من البدر، وابتسامته أحلى من الجمال، أزلتُ بيدي قصاصةً من الورق الملون علقت بشعره، قبل أن ندخل قاعة العرس.. كان يخشى ألا أكون سعيدة حين تقَرَّر أن يكون عرسنا مشتركاً تقاسمني إياه عروس أخيه، لكنني لم أعترض، أشفَق عليّ من انتقاص الفرحة ومتاهة المقارنات، لكنني لم أكترث، ومضى ذلك اليوم كأجمل ما تكون الأيام.. كما مضى يوم ميلاد عبود كأجمل ما يكون تحقق الأمنيات..

"سمي واستعيني بالله يابا وانزلي" انتزعتني جملة أبي من تحت الماء، كان عليّ الآن أن أواجه الواقع، ليس حلماً، ولا مجال للشك أو الرجاء.. مشيت في باحة المشفى كما فعلت قبل عام تماماً، بخطى متثاقلة وهم حولي بين باكٍ وواجِمٍ ومُنتحِب، ونظرات الناس تلتهِمنا، لكنهم لا يبتسمون، العجائز لا يبشرنني بزوال حزني وألمي في "غمضة عين" عند رؤية وجه مولودي، الممرضات لا يهرعن لمساعدتي طلباً "للفال الحلو"، كانوا واجمين تبدو في عيونهم نظرات الإشفاق، ويتبادلون الهمسات بحذر، سمعت منها "مرت الشهيد".. ترددت الكلمة في سمعي وتعاظم صداها حتى ملأ جوفي، وهزّ أركان قلبي، من هذه التي يتحدثون عنها؟ أهذه أنا؟ وإلى أين يأخذونني؟ لأرى جثة زوجي؟ ضغطت على عقلي كثيراً ليستوعب ما أقول، لكنه كان يتفلت ويتمرد، حتى وصلت باباً معنوناً بـ"ثلاجات الموتى" شعرت بالدوار وكَبَت ساقاي، مرت لحظات وأمي وأخي يحاولان إسنادي، وأنا أحاول إخماد المعركة الدائرة بيني وبين عقلي، أو إرجاءَها على الأقل..   

دخلت بعد أن تمالكت نفسي، واستجمعت شجاعتي المتبقية، رأيته ممدداً وقد تم لفه بملاءة بيضاء، كُتب عليها بخط عريض: شهيد (6) شاهر المدهون. لعلّ الذي كتب هذه الجملة لم يمثل له الإنسان الذي تحتها شيء سوى الرقم الذي لا يجب أن ينساه، حتى يكون الإحصاء دقيقاً، ربما كتب الأرقام السابقة على عجل، وبعد الرقم السادس، مضى ليكمل طريقه بانتظام.. هل يدرك أن هذا المسمى 6 هو عالم بأكمله؟ حياة بكل تفاصيلها؟ تفاصيلها التي ترتبط من كل طرف بتفاصيل حيوات أخرى كثيرة لأناس كثيرين؟ وأن انقطاعها عنهم يعني انفصام جزء منهم واختفاءه من الوجود؟

كان جبيه نَدِيّاً رغم صقيع الثلاجة، وملامحه مسترخية كأنه نائم، وبدَت ارتماءات أحبابهم على جسده منهارين شبيهة بحركات عبود وهو يحاول إيقاظه بعنف طفولي ودلال، لكن ملامحه ظلت هادئة ثابتة وجسده يهتز بفعل تحريكهم له متوسلين أن يعود، كنت أنتظر أن يفيق، ويبتسم، وينهض ببطء، لماذا ربطوا يديه معاً وشدّوهما برِباط إلى صدره؟ دعوه، فمن عادته أول ما يفيق أن يمدّ يده اليسرى ليرتب شعره.. انتظرته أن يحاول تحريكها.. لكنه لم يفعل

كنت أسمع صوته يخاطبني، بوضوح تام واختفى كل الضجيج من حولي، سمعته يقول: اقتربي لا تخافي. تأملته، مددت يدي على كفيه المعقودتين، طبعت قبلة على جبينه، وهمست في أذنه "سلام عليك".. ومضيت

عدت في نفس الدرب التي مشيتها معه حاملة حلمي الأول، بعد أو ودعت الحقيقة الوحيدة في حياتي.. وعلى نفس الخطوات رأيت الخطوات التي رسمناها لعبود معاً، فمحوتها، ورسمت له درباً أخرى مُفتَتَحُها: شهادة والده! 

قالب تدوينة تصميم بلوجرام © 2014