عندما اشترت أمي "روج"


عندما اشترت أمي "روج"

اعتدت أن أصحب أمي كل شهر إلى السوق في موعده الثابت، الذي تحضر فيه احتياجاتها الخاصة الشخصية، من المبلغ الزهيد الذي اعتاد أبي أن يخصصه لها وحدها لتبتاع ما تشاء رغم قلة راتبه، لا أذكر بالضبط ما هي الأشياء التي كانت أمي تشتريها، لكنها كانت غالباً قطعة ملابس، أو تحفة منزلية، أو أداة للمطبخ، أو حتى ملابس لنا لم تستطع مقاومتها فاختارتها متجاهلة احتياجاتها هي، لكن ما أذكره جيداً أن أمي كانت كل مرة تمرّ على محلّ أدوات التجميل لتشتري مجموعة من الزيوت والدهون المفيدة للعضلات والجلد لجدتي التي كانت تسكن معنا، وتدلكها بها بنفسها طوال الشهر، لم تطلب جدتي ذلك من أمي يوماً، لكنّها كانت تتهلل عندما تراها وهي تدخل المنزل، وتضحك عيناها عندما تقع على يدها والكيس الذي يحمل شعار المتجر، ولم يلزِم أبي أمي برعاية أمه على حسابها، لكنها كانت تفعله اختياراً خالصاً، وبرضى تام، وقناعة مطلقة، حتى جعلته إحساناً فرضاً على نفسها، ومهما كان ما تريد شراءه، فإنها تحرص على أن يكون الباقي من ثمنه يكفي لحُصة جدتي، وأصبح وجهي مألوفاً لصاحب المحل حتى صار يخصص لي قطعة حلوى موعد كل زيارة..

ذات يوم، وبعد عدة سنوات من الراتب المراوح مكانه، والغلاء المعيشي الصاعد، كانت أمي قد قرّرت أن تشتري لنفسها أدوات تجميل من ذات المحل، وعندما اختارت أمي مستحضراتها، ومستحضرات جدتي المعتاة، تفاجأت بالثمن الذي تخطى حدود نقودها، كانت تتمنّى شراء ذلك "الروج" ذائع الصيت، وتنتظر تلك الفرصة طوال الشهر، شعرت أمي بالخيبة، والغصة، والسخرية في نفس الوقت: كيف لا يمكنني أن أختار ما أحتاج وأنا التي أمتهن الإحسان والإيثار للجميع؟ كيف يمكن للظروف أن تكون أنانية إلى هذا الحد؟ هل ستتقبل حماتي الفسحة التي تجرأت على منحها لنفسي بعد كل تلك السنين من التضحية ولم أتلقَ مقابلها كلمة شكر؟ كيف للبشر أن يكونوا قُساةً إلى هذا الحد؟.." وجدت نفسها لأول مرة تناقش الفكرة لا الحالة، تشك في المبدأ لا الموقف، وتراجع ثبات القرار، وليس وقتية الظرف..
مزهرية مع ورود، شخص محطّم لينقذها
عندما اشترت امي روج


شعر البائع بالإحراج وهو ينتظر أن تقرر أمي، فقرر أن يعطيها نصيحة تخلصها من حيرتها:" خلص بلاش الروج"، شعرت أمي بالغيظ، ورمقته بنظرة زادته إحراجاً، فانشغل ببعض الترتيبات، وقرّرت أمي أخيراً أنها ستشتري الروج، وتتنازل عن مجموعة جدتي.

خرجنا من المحل، وقد وضعت الكيس في حقيبتها ولم تحمله بيدها، وعندما سألتها: "وين حاجات تيتا"، ردت بصرامة: "المرة الجاية"

عندما دخلنا المنزل، كانت جدّتي تراقب أمي ولم تلحظ الكيس المعتاد، فاعتلت وجهها ملامح الإحباط، وانكفأت على نفسها فجأة، كانت أمي تشعر بالرضا، وبالخجل أيضاً، فتحاشت النظر المباشر إليها أو الحديث المباشر معها، وأعلنت بدءها بتحضير الغداء قبل وصول أبي.

كانت تعد الطعام وهي تصارع الحرب الدائرة داخل نفسها، ترى نفسها شيطانة مرة، وتجبر عقلها على تقبل أنها إنسانة اخرى، تجلد نفسها لإساءتها الأدب، ثم تُهدِئ من روعها أنها لم تفعل شيئاً إطلاقاً! وبعد أن هدأَت قليلاً كان الغداء قد نضج، وأبي قد وصل.
وعندما دخلتُ معه إلى غرفة جدتي ليسلم عليها ككل يوم، وجدناها قد فارقت الحياة! كانت جالسة بوقار، تتّكِئ إلى الجدار، وترفع رأسها بكبرياء، غير أن ملامح وجهها كانت حزينة جداً، وعلى صدرها تحتضن ألبوماً يختزن السنين في صور، والذكريات في بطاقات.. تركتُ أبي منشغلاً بالصدمة، ومحاولة إيقاظها، وغرقت في دموع الذهول، والزهرة التي لم أقطفها بعد، والتي قررت أن أتقاعس عن قطفها، وهرعت إلى أمي راكضة ولم يكن في بالي تلك اللحظة سوى شيء واحد: "ماما، ما في مرّة جاية!".
        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق