أليس لم تعد في بلاد العجائب

تفتح المدينة عينيها المتعبتين صباحاً، بعد ليل مسهد، تكسر سكينته أصوات الانفجارات، وتغير لونه أضواؤها، ليل كأنه قطعة هاربة من سيرة حرب، ولكنها بعد هدأة جنونه تخرج منه إذ تفتح عينيها إلى صباح من عالم آخر، كأنها استيقظت من حلم، فتنفض صوت القصف من أذنها، وتخلع ثوب الرعب، وتبتلع خوف الصغار حين تصحو على صوت العصافير، ويتبخر لهب الصواريخ مع أشعة الشمس. 
تسير "أليس" -خلال زيارتها لغزة- في شوارعها التي كانت الليلة الفائتة مدينة الأشباح، فترى في صباحها حياةً تُبهِج القلب، صباحاً تمتلئ شوارعه بأطفال يحملون المستقبل في حقيبة على ظهورهم، يُرافِقون عمّالاً يضعون في الكيس مع فطورهم البسيط قلقهم ألا يجدوا قوتهم ذلك اليوم، يقَبّل الأطفال يد جَدّهم العائد من صلاة الفجر، ويتراكضون فرحاً ودهشة إذا صادفوا مُقاوماً أبطأَتْ بهِ الدّرب عائداً من رِباطه على الثغور، تصادِف أشخاصاً كلُهم كانوا مثلَها يوماً، حملُوا على ظُهورِهم حقيبة، ثم صاروا يحملون المدينة: دفئَها، نهضَتها، أَمْنَها...وأملَها، فترى أنه لا يشبه عبور ليل هذه المدينة إلى نهارها، سوى عبور الحدّ الفاصل بين بلاد الرعب وأرض الأحلام!
في هذه المدينة، لا يظهر ذاك الحد الفاصل بين الليل والنهار فقط، بل يتعداهما ليشكل سمة الناس والحياة، ليقسمها جميعاً إلى شقين متضادين تضاد الأبيض والأسود، متمازجين في ذات الوقت تمازج ذينك اللونين على لوحة الشطرنج، فيجعل أهلها في مواجهة لا تنتهي مع الضدين؛ 


في غزة، يعمل موظفون لا يتقاضون رواتبهم حراساً للبنوك التي يتقاضى منها موظفون آخرون رواتب دون عمل! وبعد حين، يأمرهم قائدهم ذاته الذي أمرهم بترك أعمالهم مع ضمان الراتب، أن يعودوا للعمل مقابل راتب أقل من ذلك الذي منحهم إياه طوال أحد عشر عاماً وهم في بيوتهم!
 تحت سماء هذه المدينة، يعيش تجار يمتلكون آلاف الدولارات على شكل بضائع قابعين في السجن، لأنهم لا يستطيعون سداد استحقاقاتهم بعد أن تكدست بضائعهم وسط مجتمع يستدين لقمته ودواءه! وتحت ذات السماء، يستورد بعضهم ملابسه ومركباته واحتياجاته المترفة من أوروبا إذ لم تعد تليق بهم تلك التي داخل المدينة!    
ترى "أليس" في بقعة تتجاوز مساحتها نصف مساحة القاهرة وحدها بقليل، سيارات تستخدم غاز الطهي والزيت النباتي وقوداً لها، ومباني تستخدم الطاقة الشمسية بدلاً من التيار الكهربائي، ومستشفيات تجري عمليات غسيل الكلي يدوياً، وجنوداً محاصرين ملاحقين يصنعون صواريخ وطائرات دون طيار محلياً، ومدينة تجثم فوق شبكة من الأنفاق، أوسع وأعقد وأنظم من شبكات البنى التحتية، ويقضي نصف سكانها داخلها نصف أوقاتهم!
هنا، تدفع الأمهات الموظفات لحضانات أطفالهن أكثر من الراتب الذي يتقاضينه، ويبتعن ملابسهن من محلات البضاعة المستعملة! هنا، كلما ازداد الفقر انتشاراً وتمدداً، ازدادت المظاهر الباذخة تغلغلاً، وكلما تعسر الزواج، ارتفعت تكاليفه! وهنا يقارب عددُ الجياع عددَ المطاعم، ويفوق عدد المركبات عدد السكان!
يتجه سكان هذه المدينة نحو التطرف في كل شيء، ينزعون إلى أحد النقيضين، ويبدأ الوسط في التلاشي، ييأسون من الحياة بقدر ما يعاندون الموت، يتراجعون للوراء بقدر ما يواكبون التطور، يتعطشون للوحدة بقدر ما يعززون التشرذم، يصدرون العباقرة بقدر ما يحتفون بالحمقى، يرفضون الذل بقدر ما يمارسون النفاق، يعيشون الجزع بقدر ما يعلمون الصبر، وينتظرون الموت بقدر ما يمارسون الحياة!
رأت "أليس" عدد السكان الذين يسكنون خياماً على أنقاض بيوتهم المدمرة، يوازي عدد الدولارات التي سجلت ثمناً لشقة فاخرة واحدة معروضة للبيع بنصف مليون، وعدد الطلاب المطرودين من قاعات الامتحان في الجامعات لعدم تسديد باقي الرسوم، يساوي عدد الباعة الذين أطلقوا "حملة سامح تؤجر" لإسقاط ديونهم عن المواطنين!
رأت مدينةً معبر البضائع بينها وبين الاحتلال مفتوح، ومعبر السفر بينها وبين جارتها العربية مغلق، ومرضى لا يجدون علاجهم فيها فيسافرون للعلاج وتمنعهم جارتهم، وأمهاتٍ تودّع أطفالها المرضى على فراش العلاج مسافرين وحدهم، في وحشة الإسعاف، ليس معهم سوى الطبيب، لأنهن ممنوعات من السفر "أمنياً"!
رأت حكومةً مدينة لموظفيها، ورئيساً يعاقب أتباعه ومواليه، نكاية في خصومه السياسيين ومنافسيه! ولا يطل بخطاباته إلا ليسجل مهزلة تصريحية جديدة افتتاحاً بـ" أُلْتِلُّو وأَلِّي وآلُولْنا وأُلْنَالْهُم" مروراً بـ "فاتن حمامة" وانتهاءً بـ "الكنادر والصرامي"، ثم يطلب من أتباعه -المعاقبين- تفويضه لفرض عقوبات جديدة عليهم، ثم يخطف السرطان فنانة ثائرة شابة جميلة، ويترك ذلك الرئيس يحتفل بعيد ميلاده الثالث والثمانين!
عاشت في الواقع مغامرات أكثر تعقيداً وغرابة من الخيال، لم تعد "أليس" بحاجة أن تزور بلاد العجائب ذات الأرنب الضخم، وصانع القبعات المجنون، فقد رأت في غزة ما هو أعجب، وهي في ضيافة مدينة تبكي كل عاصمة عربية خذلها بنوها ومعادوها، رغم أنهم هم أول من خذلوها، ويعيد أبناء الجيل الثالث لخيام التهجير والتشريد والعذاب، نصب خيامهم من جديد على حدود بلادهم المسروقة والمكوث فيها، بمحض إرادتهم، ليبرهنوا للعالم أن أجدادهم لم يموتوا، وأنهم لن ينسوا، وأنهم سيعرضون الوقائع بطريقة عكسية، ستنتقل هذه المرة من الخيام إلى العودة.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق